عظة قداسة البابا فرنسيس
وفي إعلان قداسة
الأخ مانويل رويز لوبيز ورفاقه الرّهبان الفرنسيسكان، والإخوة المسابكيين الموارنة (شهداء دمشق)
والأب جوزيبي ألّامانو، والأخت باراديس ماري ليوني، والأخت إيلينا جويرا
(الأحد التّاسع والعشرون من زمن السّنة)
يوم الأحد 20 تشرين الأوّل/أكتوبر 2024
ساحة القدّيس بطرس
_________________________________________
سأل يسوع يعقوب ويوحنّا: "ماذا تُريدانِ أَن أَصنَعَ لَكما؟" (مرقس 10، 36). وسألهما بعد ذلك مباشرة: "أَتَستَطيعانِ أَن تَشرَبا الكأسَ الَّتي سَأَشرَبُها، أَو تَقبَلا المَعمودِيَّةَ الَّتي سَأَقبَلُها؟" (مرقس 10، 38). يسوع يطرح الأسئلة، وبهذه الطّريقة يساعدنا لنميّز، لأنّ الأسئلة تجعلنا نكشف ما في داخلنا وتنير ما نحمله في قلوبنا.
لندَعْ كلمة الله تسألنا. لنتخيّل أنّ الله يسألنا، يسأل كلّ واحدٍ منّا: ”ماذا تريد أن أصنع لك؟“، والسّؤال الثّاني: ”أتستطيع أن تشرب الكأس نفسها التي أشربها أنا؟“.
بهذه الأسئلة، يسوع يبيّن العلاقة والتّوقّعات التي في التّلميذَين تجاهه، بما في ذلك الجوانب الإيجابيّة والسّلبيّة لكلّ علاقة. في الواقع، كان يعقوب ويوحنّا مرتبطَيْن بيسوع، ولكن كان لهما ادِّعاءات. عبّرا عن رغبتهما في أن يكونا قريبَين منه، ولكن فقط ليشغلَا مكان شرف، وتكون لهما أهمّيّة، لكي ”يجلسا في مجده، واحدٌ عن يمينه والآخر عن يساره“ (راجع مرقس 10، 37). بالتّأكيد كانا يفكّران في يسوع أنّه المسيح المنتصر والممجّد، وينتظران منه أن يشاركهما مجده. كانا يريان في يسوع، المسيح، لكنّهما كانا يتخيّلانه بحسب منطق القدرة.
لم يتوقّف يسوع عند كلام التّلميذين، بل ذهب إلى العمق، وأصغى إلى قلبيهما وقرأ ما فيهما. وفي حواره معهما، حاول من خلال سؤالَين، أن يبيّن الرّغبة الكامنة فيهما وراء هذه الطّلبات.
سألهما في البداية: "ماذا تُريدانِ أَن أَصنَعَ لَكما؟"، وكشف هذا السّؤال أفكار قلبيهما، وسلّط الضّوء على التّوقّعات المخفيّة وأحلام المجد التي كان يحلم بها التّلميذان سِرًّا. وكأنّ يسوع يسأل: ”من تريد أن أكون أنا بالنّسبة لك؟“ وهكذا، كشف عمّا كانا يرغبان فيه حقًّا: مسيحًا مقتدرًا ومنتصرًا يمنحهما مكان شرف.
ثمّ، من خلال السّؤال الثّاني، فنّد يسوع صورة المسيح هذه، وبهذه الطّريقة ساعدهما على أن يغيّرا نظرتهما، أي أن يتوبا: "أَتَستَطيعانِ أَن تَشرَبا الكأسَ الَّتي سَأَشرَبُها، أَو تَقبَلا المَعمودِيَّةَ الَّتي سَأَقبَلُها؟". بهذه الطّريقة، كشف لهما أنّه ليس المسيح الذي يفكّران فيه، بل هو إله المحبّة، الذي ينحني ليصل إلى من هم في الأسفل، والذي يصير ضعيفًا ليُنهض الضّعفاء، والذي يعمل من أجل السّلام وليس الحرب، والذي جاء ليَخدُم وليس ليُخدَم. الكأس التي سيشربها الرّبّ يسوع، هي تقدمة حياته، التي بذلها لنا بمحبّة، حتّى الموت، الموت على الصّليب.
وبالتّالي، عن يمينه وعن يساره سيكون لصّان، معلّقان مثله على الصّليب، لا جالسَين في أماكن السّلطان. لصّان مسمّران مع المسيح في الألم، وليسا جالسَين في المجد. الملك المصلوب، والبارّ المحكوم عليه، صار عبدًا للجميع: كان هذا ابن الله حقًّا! (راجع مرقس 15، 39). لا ينتصر من يسيطر، بل من يَخدُم بمحبّة. ذكّرتنا بذلك أيضًا الرّسالة إلى العبرانيّين: "فلَيسَ لَنا عَظيمُ كَهَنَةٍ لا يَستَطيعُ أَن يَرثِيَ لِضُعفِنا: لَقَدِ امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ مِثْلَنا ما عَدا الخَطِيئَة" (العبرانيّين 4، 15).
هنا، يمكن ليسوع أن يساعد التّلاميذ على التّوبة، وتغيّير طريقة تفكيرهم: "تَعلَمونَ أَنَّ الَّذينَ يُعَدُّونَ رُؤَساءَ الأُمَمِ يَسودونَها، وأَنَّ أَكابِرَها يَتَسَلَّطونَ علَيها" (مرقس 10، 42). وليست هذه حال من يتبع إلهًا صار خادمًا ليصل إلى الجميع بمحبّته. من يتبع المسيح، إن أراد أن يكون كبيرًا، عليه أن يَخدُم، ويتعلَّم ذلك منه.
أيّها الإخوة والأخوات، يسوع يكشف أفكارنا ورغباتنا وأوهام قلوبنا، ويزيل القناع أحيانًا عن تطلعاتنا إلى المجد، والسّيطرة، والسّلطة. يساعدنا لنفكّر ليس بحسب معايير العالم، بل بحسب أسلوب الله، الذي صار الأخير لكي يرفع الأخيرين فيصيرون أوّلين. وهذه الأسئلة التي يطرحها يسوع، وتعليمه عن الخدمة، تكون مرارًا غير مفهومة بالنّسبة لنا، كما كانت للتّلاميذ. لكن باتّباعه، والسّير في خطاه، وقبول عطيّة محبّته التي تحوِّل طريقة تفكيرنا، يمكننا نحن أيضًا أن نتعلَّم أسلوب الله: الخدمة.
هذا ما يجب أن نتطلّع إليه: ليس السّلطة، بل الخدمة. الخدمة هي أسلوب الحياة المسيحيّة. لا تعني قائمة من الأمور التي يجب أن نقوم بها، وكأنّنا بمجرّد القيام بها نكون قد أنجزنا دورنا. من يخدم بمحبّة لا يقول: ”الآن حان دور شخص آخر غيري“. هذا هو تفكير الموظّفين، وليس شهود الإيمان. الخدمة تنبع من المحبّة، والمحبّة لا تعرف حدودًا، ولا تجري حسابات، بل تبذل نفسها وتعطي. إنّها لا تكتفي بالإنتاج من أجل تحقيق النّتائج، وهي ليست إنجازًا عرضيًّا، بل هي شيء ينبع من القلب، من قلب متجدّد بالمحبّة وفي المحبّة.
عندما نتعلَّم أن نخدم، يصير كلّ عملِ عنايةٍ فينا، وكلُّ اهتمام، وكلّ تعبير حنان، وكلّ عمل من أعمال الرّحمة شعاعًا يعكس محبة الله. وإذّاك كلّنا نُكَمِّلُ عمل يسوع في العالم.
في هذا النّور يمكن أن نحيِي ذكرى تلاميذ الإنجيل، الذين ستُعلَن قداستهم اليوم. على مرّ تاريخ البشريّة المعذّبة، كانوا خدّامًا أمناء، رجالًا ونساءً، خدموا في الاستشهاد والفرح، مثل الأخ مانويل رويز لوبيز (Manuel Ruiz Lopez) ورفاقه. هم كهنة ومكرَّسون ومكرَّسات، مندفعون إلى الرّسالة، مثل الأب جوزيبي ألّامانو (Giuseppe Allamano)، والأخت باراديس ماري ليوني (Paradis Marie Leonie)، والأخت إيلينا جويرا (Elena Guerra). هؤلاء القدّيسون الجدُد عاشوا أسلوب يسوع: الخدمة. الإيمان والرّسالة التي قدّموها لم تغذّي فيهم رغبات دنيويّة وتَوقًا إلى السّلطة، بل العكس، جعلوا أنفسهم خدامًا لإخوتهم، وخلّاقين في عمل الخير، وثابتين في المصاعب، وأسخياء حتّى النّهاية.
لنطلب شفاعتهم بثقة، لكي نستطيع نحن أيضًا أن نتبع المسيح، أن نتبعه في الخدمة، ونصير شهود رجاء للعالم.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2024
Copyright © Dicastero per la Comunicazione - Libreria Editrice Vaticana